فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قالوا: علم الله تعالى من حالهم أنهم سواء أنزلها أو لم ينزلها فإنهم يأتون بتلك الزيادة من الكفر، فلهذا حسن منه تعالى إنزالها.
قلنا: فعلى هذا التقدير لم يكن ذلك الازدياد لأجل إنزال تلك الآيات، وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدياد الكفر إلى إنزال تلك الآيات باطلًا، وذلك تكذيب لنص القرآن. اهـ.
وقال الفخر:
اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوته بعد ظهور الدلائل على صحتها لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة.
ثم إنه تعالى بيّن أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة لا جرم أن الله تعالى كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدينا، لأن كل فريق منهم بقي مصرًا على مذهبه ومقالته، يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات تعظيمًا لنفسه وترويجًا لمذهبه، فصار ذلك سببًا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم، وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضًا ويغزو بعضهم بعضًا، وفي قوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء} قولان: الأول: المراد منه ما بين اليهود والنصارى من العداوة لأنه جرى ذكرهم في قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى} [المائدة: 51] وهو قول الحسن ومجاهد.
الثاني: أن المراد وقوع العداوة بين فرق اليهود، فإن بعضهم جبرية، وبعضهم قدرية، وبعضهم موحدة، وبعضهم مشبهة، وكذلك بين فرق النصارى: كالملكانية والنسطورية واليعقوبية.
فإن قيل: فهذا المعنى حاصل بتمامه بين فرق المسلمين، فكيف يمكن جعله عيبًا على اليهود والنصارى؟
قلنا: هذه البدع إنما حدثت بعد عصر الصحابة والتابعين، أما في ذلك الزمان فلم يك شيء من ذلك حاصلًا، فلا جرم حسن من الرسول ومن أصحابه جعل ذلك عيبًا على اليهود والنصارى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي اليهود.
وقال في «البحر»: «الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم في قوله سبحانه: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى} [المائدة: 51] ولشمول قوله عز وجل: {يا أَهْلِ الكتاب} [المائدة: 59] للفريقين، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد».
{العداوة والبغضاء} فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتحد كلمتهم، فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم مشبهة، والعداوة والبغضاء بين فرقة وفرقة قائمتان على ساق، وكذا من النصارى الملكانية واليعقوبية والنسطورية، وحالهم حالهم في ذلك، وحال اليهود مع النصارى أظهر من أن تخفى، ورجح عود الضمير إلى اليهود بأن الكلام فيهم، وفائدة هذا الإخبار هنا إزاحة ما عسى أن يتوهم من ذكر طغيانهن وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين، وقال أبو حيان في البحر بعد أن أرجع الضمير للطائفتين: «إن المعنى لا يزال اليهود والنصارى متباغضين متعادين قلما توافق إحدى الطائفتين الأخرى، ولا تجتمعان على قتالك وحربك، وفي ذلك إخبار بالغيب فإنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ سل سيف الإسلام».
وفرق السمين بين العداوة والبعضاء بأن العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو {إلى يَوْمِ القيامة} متعلق بألقينا وجوز أن يتعلق بالبغضاء أي إن التباغض بينهم مستمر ما داموا، وليست حقيقة الغاية مرادة، ولم يجوز أن يتعلق بالعداوة لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي. اهـ.

.قال الفخر:

{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله}.
وهذا شرح نوع آخر من أنواع المحن عن اليهود، وهو أنهم كلما هموا بأمر من الأمور رجعوا خائبين خاسرين مقهورين ملعونين كما قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَمَا ثُقِفُواْ} [آل عمران: 112] قال قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتم من أذل الناس.
ثم قال تعالى: {وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَادًا} أي ليس يحصل في أمرهم قوة من العزة والمنعة، إلا أنهم يسعون في الأرض فسادًا، وذلك بأن يخدعوا ضعيفًا، ويستخرجوا نوعًا من المكر والكيد على سبيل الخفية.
وقيل: إنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلّط عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلّط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين.
ثم قال تعالى: {والله لا يُحِبُّ المفسدين} وذلك يدل على أن الساعي في الأرض بالفساد ممقوت عند الله تعالى. اهـ.

.قال الألوسي:

{كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين، والمراد كلما أرادوا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ورتبوا مباديها ردّهم الله تعالى وقهرهم بتفرق آرائهم وحل عزائمهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب، وقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال جعلوا علامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة ويسمونها نار الحرب، وهي إحدى نيران مشهورة عندهم، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم، وحكى في «البحر» قولين في الآية: «فعن قوم أن الإيقاد حقيقة، وكذا الإطفاء أي أنهم كلما أوقدوا نارًا للمحاربة ألقى عليهم الرعب فتقاعدوا وأطفأوها، وإضافة الإطفاء إليه تعالى إضافة المسبب إلى السبب الأصلي.
وعن الجمهور إن الكلام مخرّج مخرج الاستعارة، والمراد من إيقاد النار: إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار في الإضرار، ومن إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين، ولعل القول بالكناية ألطف منهما، وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم هو المروي عن الحسن ومجاهد، وقيل: هو أعم من ذلك أي كلما أرادوا حرب أحد غلبوا، فإن اليهود لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط سبحانه عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط جل شأنه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم عز وجل رسوله عليه الصلاة والسلام، فأباد خضراءهم.
واستأصل شأفتهم وفرق جمعهم وأذلهم فأجلى بني النضير وبني قينقاع، وقتل بني قريظة وأسر أهل خيبر، وغلب على فدك، ودان له أهل وادي القرى، وضرب على أهل الذمة الجزية وأبقاهم الله تعالى في ذل لا يعزون بعده أبدًا، وإطفاء النار على هذا عبارة عن الغلبة عليهم قاتلهم الله تعالى، و{لّلْحَرْبِ} متعلق بأوقدوا واللام للتعليل، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنار، وهو الأوفق بالتسمية.
{وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَادًا} أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب؛ كتغيير صفة النبي صلى الله عليه وسلم وإدخال الشبه على ضعفاء المسلمين والمشي بالنميمة مع الافتراء ونحو ذلك، و{فَسَادًا} إما مفعول له، وعليه اقتصر أبو البقاء، أو في موضع المصدر، أو حال من ضمير {يَسْعَوْنَ} أي يسعون للفساد، أو سعي فساد أو مفسدين.
{والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} بل يبغضهم، ولذلك أطفأ (نائرة فسادهم)، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولًا أوليًا، وإما للعهد، ووضع المظهر موضع ضميرهم للتعليل وبيان كونهم راسخين في الإفساد.
والجملة ابتدائية مسوقة لإزاحة ما عسى أن يتوهم من تأثير اجتهادهم شيئًا من الضرر، وجعلها بعضهم في موضع الحال، وفائدتها مزيد تقبيح حالهم وتفظيع شأنهم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَيَسْعَوْنَ في الأرض فَسَادًا} يعني: يعملون فيها بالمعاصي، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله تعالى، {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} يعني: لا يرضى بعمل الذين يعملون بالمعاصي، والله لا يحب أهل الفساد، ولا عملهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...} الآية (64).
صغَّر سوء قالة الموحِّدين- في اغتياب بعضهم لبعض بعد ما كانوا بالتوحيد قائلين وبالشهادة ناطقين- بالإضافة إلى ما قاله الكفار من سوء القول في الله؛ يعني أنهم وإن أساءوا قولًا فلقد كان أسوأ قولًا منهم مَنْ نَسبَنَا إلى ما نحن عنه مُنَزَّهٌ، وأَطلق في وصفنا ما نحن عنه مُقدَّسٌ.
ثم إن الحق- سبحانه قال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} فلا ريح الصدق يشمون، ولا نَفَسًا من الحقِّ يجدون.
ثم أثنى على نفسه فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي بل قدرته بالغة ومشيئته نافذة، ونعمته سابغة وإرادته ماضية.
ويقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي يرفع ويضع، وينفع ويدفع، ولا يخلو أحدٌ عن نِعَمِ النفع وإن خلا عن نعم الدفع. اهـ.

.من فوائد الثعلبي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ}.
قال ابن عباس وعكرمة والضحّاك وقتادة: إن اللّه كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالًا وأخصبهم ناحية فلما عصوا اللّه في محمد عليه السلام وكذبوا به كفى اللّه عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك قال فنحاص بن عازورا: يد اللّه مغلولة لم يريدوا إلى عنقه ولكنهم أرادوا إنها مقبوضة بمعنى منه ممسكة عن الرزق فنسبوه إلى البخل.
وقال أهل المعاني: إنما قال هذه المقالة فنحاص فلم ينهوا الآخرون ورضوا بقوله فأشركهم اللّه فيها وأرادوا باليد العطاء لأن عطاء الناس بذل معروفهم في الغالب بأيديهم واستعمل الناس اليد في وصف الإنسان بالرد والبخل.
قال الشاعر:
يداك يدا مجد فكف مفيد ** وكف إذا ما ضن بالمال ينفق

ويقال للبخيل: جعد الأنامل، مقبوض الكف، كز الأصابع، مغلول اليدين، قال الله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} الآية [الإسراء: 29].
قال الشاعر:
كانت خراسان أرضًا إذ يزيد بها ** وكل باب من الخيرات مفتوح

فاستبدلت بعده جعدًا أنامله ** كأنما وجهه يأكل منضوج

وقال الحسن: معناه يد اللّه مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلاّ بما [يقرّبه] قيمة قدر ما عبد آباؤنا العجل. وهو سبعة أيّام.
وقال مجاهد والسدّي: هو أن اليهود قالوا إن اللّه لما نزع ملكنا منا وضع يده على صدره يحمد إلينا ويقول: يا بني إسرائيل، يا بني أحباري لا أبسطها حتى أرد عليكم الملك. والقول الأول أولى بالصواب لقوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} وقيل: هو استفهام تقديره: أيد اللّه مغلولة عنا؟ حيث قتّر المعيشة علينا قال الله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} أي مسكت أيديهم عن الخيرات وقبضت عن الانبساط بالعطيات.
وقال يمان بن رئاب: شدد وثقل عليهم الشرائع، بيانه قوله: {والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وقيل: هو من الغل في النار يوم القيامة كقوله: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71] {وَلُعِنُواْ} عذبوا {بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} اختلفوا في معنى يد اللّه سبحانه، فقال قوم: إن له يدًا لا كالأيدي وأشاروا باليد إلى الجارحة ثم قصدوا نفي التشبيه بقوله لا كالأيدي وهذا غير مرضي من القول وفساده لا يخفى.